قصة تمثال الحرية: من فلاحة الفيوم إلى قلب نيويورك.. هدية فرنسا التي لم تُخطط لها

قصة تمثال الحرية: من فلاحة الفيوم إلى قلب نيويورك.. هدية فرنسا التي لم تُخطط لها

في عام 1886، وقف تمثال الحرية شامخًا في ميناء نيويورك، ليس كرمز للحرية وحدها، بل كقصة مركبة من التحولات السياسية، والاقتصادية، والثقافية. لم يكن هذا التمثال، الذي يُعتقد أنه مُصمم لتمثّل الحرية الغربية، مُستوحى من أسطورة يونانية أو رمز أميركي، بل من وجه فلاحية مصرية من قرية في الفيوم. النحات الفرنسي فريدريك أوغست بارتولدي، الذي صمّم التمثال، قال لاحقًا إن الوجه يشبه وجه أمه — لكنه في الأصل كان يرسم امرأة مصرية ترتدي تاجًا مُشبهًا بتاج الشمس، تحمل مصباحًا يُضيء طريق الملاحة عبر قناة السويس.

من مصر إلى أمريكا: عندما تغيّر الحلم

في عام 1869، عرض بارتولدي على إسماعيل باشا، خديوي مصر، مشروعًا بعنوان "مصر تجلب النور إلى آسيا". كان المقصود منه تمثالًا ضخمًا عند مدخل قناة السويس، يمثل امرأة مصرية ترفع مصباحًا، كرمز للتقدم والانفتاح. المشروع أُعجب به الخديوي، لكنه لم يُنفّذ. مصر كانت تغرق في ديون ضخمة، وتكاليف بناء القناة قد أثقلت خزائنها، وعندما عجزت عن دفع تكاليف التمثال، تراجعت الفكرة. لم يكن الأمر مجرد نقص في المال — بل كان انعكاسًا لانهيار اقتصادي تدريجي، أدى لاحقًا إلى الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882.

لكن بارتولدي لم يُلقي التصميم في سلة المهملات. بدلًا من ذلك، حوّل التمثال من رمز للتنوير في الشرق إلى رمز للحرية في الغرب. استبدل التاج المصري بتيجان مُكوّنة من سبعة أشعة، تمثل البحار السبع والضوء الذي ينير العالم. أزال غطاء الرأس، وألبس المرأة رداءًا يونانيًا كلاسيكيًا، وأضفى عليها سلسلة مكسورة عند قدميها — إشارة للعبودية المُحرّرة. التصميم لم يُختَرَع من فراغ، بل تحوّل من محاولة مصرية للاحتفال بالتقدم إلى رسالة أميركية عن التحرر.

التمويل: عندما تُنقذ الصحافة مشروعًا وطنيًا

بحلول عام 1885، وصل التمثال إلى نيويورك في 214 صندوقًا، لكنه كان بلا قاعدة. الولايات المتحدة، التي تلقت الهدية، لم تُقدّم أي تمويل لبناء قاعدة من الغرانيت. حاكم نيويورك رفض استخدام أموال المدينة، والكونغرس تجاهل الطلب. كان التمثال، في جوهره، معلّقًا في الهواء — جسد بلا أساس.

هنا حيث تدخل اللجنة الأمريكية لتمثال الحرية. لكنها فشلت. حتى جاءت صحيفة النيويورك وورلد، بقيادة المحرر جوزيف بوليتزر. في حملة صحفية لم تُرَ مثلها، دعا بوليتزر القرّاء الصغار، والعمال، والنساء، والطلاب، إلى التبرع بـ"سنتات". لم يطلب ملايين الدولارات — طلب 125 ألف دولار من تبرعات لا تتجاوز 50 سنتًا. وصلت التبرعات من مدارس، ومقاهٍ، ونساء يبيعن خبزهن. في النهاية، جُمع المبلغ في 120 يومًا. كان هذا أول مثال حيّ على تمويل جماعي عبر وسائل الإعلام، قبل عصر الإنترنت بقرن.

الباحث رودريغو ديفيز من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يصف هذا الحدث بأنه "تحول جذري في العلاقة بين الجمهور والرموز الوطنية". لم يُبنى التمثال بقرار من حكومة، بل بقرار من شعب. وهذا ما جعله أعمق من مجرد نحت حجري — أصبح مُجسّدًا لفكرة أن الحرية لا تُهدى، بل تُبنى معًا.

النسخة المصغّرة: عودة رمزية إلى واشنطن

في عام 2021، وُضع نموذج مصغّر لتمثال الحرية، بارتفاع 3 أمتار، في حديقة السفارة الفرنسية في واشنطن. هذه النسخة، التي كانت محفوظة في متحف بارتولدي في باريس، أُعيرت للسفارة لمدة عشر سنوات كرمز للصداقة الفرنسية الأميركية. وعندما وصلت إلى واشنطن، مرّت بالقرب من جزيرة ليبرتي آيلاند — حيث يقف التمثال الأصلي — كأنها تُعيد تذكير العالم بأصله.

النسخة الصغيرة ليست مجرد زينة دبلوماسية. إنها تذكير بأن التمثال لم يكن يومًا مجرد هدية فرنسية، بل قصة تحوّل. من فلاحية مصرية، إلى رمز أميركي، ثم إلى رمز عالمي. كل من رأى التمثال في نيويورك يرى الحرية. لكن من يعرف القصة، يرى أيضًا الفيوم، وقناة السويس، وعشرات النساء اللواتي باعن خبزهن ليبنوا قاعدةً لحريّة لم تكن تعرفهن.

لماذا لا تزال القصة مهمة اليوم؟

لماذا لا تزال القصة مهمة اليوم؟

في زمن تُستخدم فيه الرموز كأداة سياسية، يصبح تمثال الحرية مثالًا نادرًا على رمز لم يُستَغلّ لخدمة مشروع واحد. إنه لم يُستخدم لدعم حزب، ولا لتجنيد جيش، ولا لترويج سياسة خارجية. بل ظلّ مفتوحًا — كأنه يسأل: ماذا تعني الحرية لك؟

النموذج المصري الأصلي، الذي لم يُنفّذ، كان يحمل رسالة تقدمية: أن النور يمكن أن ينبع من الشرق. التمثال الذي نعرفه اليوم، يحمل رسالة مختلفة: أن الحرية يمكن أن تُبنى من تبرعات صغيرة، من شعب مُتعب، من صحف تتحدى السلطة. هاتان الرسالتان، رغم اختلافهما، مرتبطتان بسياق واحد: أن الرموز لا تُخلق من الفراغ، بل من أرضية اجتماعية، واقتصادية، وثقافية.

ما الذي لم يُقال؟

لا يزال هناك جدل بين المؤرخين حول ما إذا كان بارتولدي قد استوحى الوجه من فلاحية حقيقية، أم أنه استخدم أمه كنموذج مثالي. لكن الأدلة تشير إلى أن الفنان كان مُولعًا بالثقافة المصرية، وسافر إلى مصر قبل سنوات من بدء العمل على التمثال. كما أن التصاميم الأولية، التي ما زالت محفوظة في متحف بارتولدي، تُظهر تفاصيل ملابس وطرازات مصرية قديمة — لم تُمحَ من الرسم، بل تحوّلت.

والأكثر إثارة: أن النسخة الأصلية التي عُرضت على إسماعيل باشا، لم تُهدم أو تُنسَ. بل ما زالت تُعرض في متحف بارتولدي، بجانب التصميمات المعدلة. إنها تُذكّرنا أن بعض الأحلام لا تموت — بل تنتقل.

أسئلة شائعة

لماذا لم يُنفّذ تمثال "مصر تجلب النور إلى آسيا"؟

لم يُنفّذ المشروع بسبب الأزمة الاقتصادية التي عاشتها مصر في أواخر القرن التاسع عشر، بعد تكاليف بناء قناة السويس التي أثقلت خزينة الخديوي إسماعيل باشا. لم تكن الدولة قادرة على تمويل مشروع ضخم آخر، حتى لو كان رمزيًا، مما دفع بارتولدي لتحويل التصميم نحو الولايات المتحدة.

كيف نجحت حملة جمع التبرعات لقاعدة التمثال؟

قاد المحرر جوزيف بوليتزر حملة في صحيفة "النيويورك وورلد" دعت المواطنين العاديين للتبرع بسنتات، وليس بملايين. وصلت التبرعات من أكثر من 120 ألف شخص، من عمال وطلاب ونساء، جمعوا 102 ألف دولار في 120 يومًا — وهو رقم مذهل لعصر لم تكن فيه بطاقات الائتمان أو التبرعات الرقمية.

هل تمثال الحرية يمثل فلاحًا مصريًا أم امرأة يونانية؟

التصميم الأصلي استوحى من فلاحية مصرية من الفيوم، لكنه تحوّل لاحقًا إلى شكل يوناني كلاسيكي ليناسب التراث الغربي. الوجه، وفقًا لتصريحات بارتولدي، يشبه وجه أمه، لكنه بقي مُتأثرًا بالعناصر المصرية في التاج والملامح. التمثال إذًا، هو مزيج ثقافي، ليس تجسيدًا لثقافة واحدة.

ما دور فرنسا في هذه القصة؟

فرنسا لم تُقدّم التمثال كهدية عابرة، بل كتعبير عن صداقة سياسية وفكرية. المُقترح الأصلي، إدوارد دي لابولاي، كان ناشطًا مناهضًا للعبودية، ورأى في التمثال تكريمًا للديمقراطية الأميركية بعد الحرب الأهلية. لكنه لم يصمّمه — بارتولدي هو من صنعه، ونقله من مصر إلى أمريكا.

لماذا تمثال الحرية لا يُعتبر رمزًا مصريًا رغم أصوله؟

لأنه لم يُبنى في مصر، ولم يُحتفل به هناك. التحول السياسي والاقتصادي في مصر، ووصول الاحتلال البريطاني، أدى لانحسار الذاكرة التاريخية للمشروع. بينما في أمريكا، أصبح التمثال محورًا للهوية الوطنية، وتم ترسيخه عبر التعليم والإعلام، مما أطاح بالجذور المصرية من الوعي العام.

ما تأثير النسخة المصغّرة في واشنطن على فهم القصة؟

النسخة المصغّرة في واشنطن ليست مجرد تذكار دبلوماسي — إنها إعلان صامت بأن القصة ليست أميركية فقط. وجودها بالقرب من البيت الأبيض يُذكّر العالم أن الرموز العالمية تُبنى من تلاقح الثقافات، وليس من احتكارها. هي تذكير بأن الحرية قد تبدأ من الفيوم، لكنها تُكمل رحلتها في نيويورك.