6 ملايين شخص بينهم 2.9 مليون طفل في سري لانكا بحاجة ماسة للمساعدة الإنسانية بسبب الأزمة الاقتصادية
في قلب جزيرة سري لانكا، حيث كانت يومًا ما نموذجًا للتنمية في جنوب آسيا، يجوع الأطفال ويتوقف التعليم، وتنطفئ الأنوار دون سابق إنذار. اليونيسف أعلنت في 2023 أن أكثر من 6 ملايين شخص — بينهم 2.9 مليون طفل — يعيشون في حالة طوارئ إنسانية، بعد أربع سنوات من انهيار اقتصادي لم يُرَ مثله منذ استقلال البلاد عام 1948. لم يكن السبب مجرد نقص في العملات الأجنبية، بل قرارًا متعمدًا: رفع ضريبة القيمة المضافة من 8% إلى 18%، وإزالة الدعم عن الوقود والكهرباء، بينما تراجعت الإيرادات الضريبية إلى أدنى مستوياتها في العالم. النتيجة؟ عائلات تدفع 5000 روبية سريلانكية (حوالي 17 دولارًا) شهريًا لتعليم طفلين، وآباء يتركون أطفالهم في المنزل لأن الحافلات لم تعد تتحرك، ومدارس تطلب من الأهالي شراء ورق الامتحانات لأن الدولة لم تعد تملك المال.
الانهيار الذي بدأ بخطوة واحدة
في أوائل 2022، بدأت سري لانكا تفقد احتياطياتها من العملات الأجنبية، فتوقفت عن استيراد الوقود والغذاء والدواء. لكن الأسوأ لم يكن النقص، بل ردود الفعل الحكومية. بدلاً من دعم الفقراء، قررت الحكومة زيادة الضرائب على كل شيء — حتى الملح والسكر ودفاتر الأطفال. في الوقت نفسه، قلصت الدعم عن الكهرباء والوقود، فارتفعت الفواتير ثلاث مرات. ونتيجة لذلك، فقد أكثر من مليون شخص وظائفهم، ودخل أكثر من أربعة ملايين شخص تحت خط الفقر الوطني. وعندما توقفت الكهرباء، توقفت مضخات المياه — فلم يعد لدى الأسر الفقيرة ماء نظيف للشرب أو الطهي أو التنظيف. والأطفال المصابون بالسوء التغذوي، الذين كانوا يعانون أصلاً من أعلى معدلات سوء التغذية في جنوب آسيا، أصبحوا أكثر عرضة للإسهال والكوليرا والتهابات الجهاز التنفسي.
المدارس التي لم تعد مدارس
في قرية بمنطقة أوراوالا، تقول سوسيكالا — أم لطفلين — إنها تدفع كل شهر ما يعادل راتبًا شهريًا كاملًا لزوجها لتعليم أطفالها. "إذا درس أطفالي جيدًا، فلن يعانوا من المشاكل الاقتصادية التي أواجهها"، تقول بحسرة، بينما تذكر أنها لم تكمل تعليمها لأن عائلتها لم تستطع دفع الرسوم. هذا ليس استثناءً. وفقًا لـ هيومن رايتس ووتش، تدفقت عائلات إلى المدارس الخاصة أو المراكز التعليمية الخاصة لأن المدارس الحكومية لم تعد تملك حتى أوراق الامتحانات. المعلمون، الذين يتقاضون رواتب لا تكفي لشراء وجبة غذاء واحدة في اليوم، يُجبرون على تقديم دروس خصوصية ليعيشوا. "الرواتب المنخفضة وثغرات النظام التعليمي العام هما السبب في ارتفاع الطلب على الدروس الخصوصية"، كما قال باحثون من هيومن رايتس ووتش، من بينهم ديه ميل، الذي أجرى مقابلات مع معلمين وأهالي ومسؤولين تعليميين.
الرعاية الصحية تنهار في الظلام
في مستشفى في كولومبو، توقفت أجهزة التبريد الخاصة باللقاحات بسبب انقطاع الكهرباء. في مراكز التغذية، لم يعد هناك حليب مدعم أو معجون بروتيني، لأن التكلفة ارتفعت إلى أكثر من ثلاثة أضعاف. حتى قبل الأزمة، كانت سري لانكا تحتل المرتبة الثانية في جنوب آسيا من حيث معدل سوء التغذية لدى الأطفال — والآن، وفقًا لـ اليونيسف، فإن 70% من الأسر لا تستطيع تأمين وجبات غنية بالبروتين، مثل البيض واللحوم والأسماك والفواكه. الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية لا يُشفون بسهولة، لأن جهازهم المناعي ضعيف، وعندما يشربون ماءً ملوثًا بسبب انقطاع التيار، تتحول الإسهالات البسيطة إلى وفيات. في بعض المناطق الريفية، لا توجد مياه جارية منذ أكثر من عام.
اليونيسف تتدخل… لكن هل كفاية؟
منذ بداية 2023، بدأت اليونيسف في توزيع تحويلات نقدية طارئة على أكثر من 200 ألف أسرة فقيرة، لتمكينهم من شراء الأطعمة المغذية التي أصبحت غير ميسورة. كما تدعم مراكز التغذية، وتوزع معدات النظافة، وتدرب المعلمين على تعليم الأطفال في ظل ظروف صعبة. لكن هذه المساعدات لا تصل إلا لجزء من المحتاجين. التمويل الدولي تراجع، والحكومة لا تملك ميزانية. "نحن نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكننا لا نستطيع بناء نظام صحي أو تعليمي من الصفر في ظل انهيار اقتصادي"، كما قال مسؤول في اليونيسف في كولومبو.
الإرث الطويل: عندما تُهمل التعليم منذ عقود
الأزمة الحالية ليست مفاجئة. منذ أواخر السبعينيات، بدأت سري لانكا في تخفيض نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي الإجمالي — ووصلت النسبة إلى أدنى مستوياتها في العالم بعد تخفيضات الضرائب الكبيرة عام 2019. قبل الأزمة، كانت المدارس الحكومية تعتمد على رسوم الأهالي لشراء الأدوات المدرسية، والكتب، وحتى ورق الامتحانات. هذا ليس إهمالًا مؤقتًا، بل سياسة ممنهجة. وعندما جاءت الأزمة، لم يكن هناك أي احتياطي — لا مالي، ولا اجتماعي، ولا تعليمي. "هذا ليس كارثة طبيعية، بل كارثة سياسية"، كما قال أحد الخبراء في جامعة كولومبو.
ماذا بعد؟
في أغسطس 2025، أصدر المفوض السامي لحقوق الإنسان تقريرًا يحذر من أن "الآثار الوخيمة للأزمة الاقتصادية لا تزال مستمرة، ولا توجد استراتيجية وطنية واضحة للإنقاذ". اليونيسف تطالب بزيادة التمويل العاجل، وتحذّر من أن الأطفال الذين يفوتون تعليمهم هذا العام لن يعودوا أبدًا. الحكومة تقول إنها تخطط لإعادة تشكيل النظام الضريبي، لكنها لم تقدم أي خطة لدعم التعليم أو الصحة. بينما تنتظر الأسر فاتورة الكهرباء القادمة، يتساءل الآباء: هل سيصبح أبناؤنا أجيالًا ضائعة؟
أسئلة شائعة
كيف تؤثر الأزمة على صحة الأطفال؟
الأطفال المصابون بسوء التغذية، الذين يشكلون نحو 28% من السكان، يواجهون خطرًا مضاعفًا: نقص الغذاء يضعف مناعتهم، وانقطاع المياه يعرضهم لأمراض مثل الإسهال والكوليرا. في بعض المناطق، ارتفعت حالات الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي بنسبة 40% منذ بداية 2023، وفقًا لسجلات اليونيسف. حتى الأطفال الذين لا يعانون من سوء التغذية يصبحون أكثر عرضة للمرض بسبب توقف خدمات التطعيم ونقص الأدوية.
لماذا لم تُنقذ الحكومة المدارس؟
الحكومة لم تُنقذ المدارس لأنها لم تكن قادرة على دفع رواتب المعلمين، ولا شراء الكتب أو الورق، بسبب تراجع الإيرادات الضريبية وانهيار احتياطيات النقد الأجنبي. بعد تخفيضات الضرائب عام 2019، انخفضت نسبة الإنفاق على التعليم إلى أقل من 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي — وهي أقل من معظم الدول الإفريقية. المدارس اضطرت لتحويل الأهل إلى ممولين، مما أدى إلى تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
ما دور اليونيسف الحالي؟
اليونيسف توزع تحويلات نقدية شهرية على 200 ألف أسرة لشراء الطعام المغذّي، وتُدعم 800 مركز صحي لتوفير العلاجات الأساسية، وتدرب 15 ألف معلم على تعليم الأطفال في ظل انقطاع الكهرباء. لكن التمويل لا يكفي لخدمة 2.9 مليون طفل محتاج. المفوضية تطالب بـ 450 مليون دولار إضافية، لكن التبرعات الدولية تراجعت بنسبة 35% مقارنة بعام 2022.
هل هناك أمل في تحسن الوضع؟
هناك بعض المؤشرات الإيجابية: تراجع التضخم من 70% في 2022 إلى 12% في منتصف 2023، وعاد بعض الاستيراد. لكن هذه التحسينات لا تصل للفقراء. ما زال 4 ملايين شخص تحت خط الفقر، و70% من الأسر لا تستطيع تأمين وجبة مغذية يوميًا. التحسن الحقيقي سيحتاج إلى إصلاحات ضريبية عميقة، وعودة الدعم الاجتماعي، وتمويل دولي طويل الأمد — وكلها أمور لا تزال في طور النقاش.
ما تأثير رفع ضريبة القيمة المضافة؟
رفع الضريبة من 8% إلى 18% بين 2021 و2024 جعل كل شيء أغلى — من الخبز إلى الدواشر. حتى أوراق الامتحانات ودفاتر الأطفال أصبحت تخضع للضريبة. وفقًا لهيومن رايتس ووتش، هذا القرار أثّر على الأسر الأكثر فقرًا بنسبة تفوق 40% مقارنة بالأغنياء، لأنهم ينفقون جزءًا أكبر من دخلهم على الأساسيات. النتيجة؟ تراجع استهلاك الأطعمة المغذية بنسبة 60% في الأسر ذات الدخل المنخفض.
لماذا لم تتدخل منظمات أخرى؟
المنظمات الدولية تواجه صعوبات في التمويل، والحكومة تفرض قيودًا على العمل الميداني. كما أن بعض المانحين ركّزوا على الأزمات في أوكرانيا أو غزة، فتراجعت أولوية سري لانكا. حتى الآن، لم تُخصص أي منظمة إقليمية خطة إنقاذ شاملة. اليونيسف هي الوحيدة التي تظل تعمل على الأرض، لكنها لا تملك الموارد الكافية لملء الفراغ الذي خلقته الدولة.
Mohamed Amine Mechaal
الوضع في سري لانكا ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل نموذج كلاسيكي لفشل السياسات النيوليبرالية المُطبقة دون حماية اجتماعية. رفع الضريبة على القيمة المضافة من 8% إلى 18% - مع توقف الدعم عن الوقود والكهرباء - كان قرارًا مُتعمدًا لتحويل العبء على الطبقات الدنيا، وهو ما يُعرف في أدبيات الاقتصاد السلوكي بـ"الضرائب غير المباشرة المُضادة للفقراء". النتائج مُسجلة في البيانات: انخفاض استهلاك البروتين بنسبة 60%، وارتفاع سوء التغذية عند الأطفال إلى مستويات لم تُسجل منذ السبعينيات. ما يُثير الاستغراب هو أن هذه السياسات لم تُواكَب بآليات تحوّل اقتصادي حقيقي، بل كانت مجرد تدابير تمويلية قصيرة المدى تجاهلت البنية التحتية الاجتماعية. اليونيسف تفعل ما يمكن، لكنها لا يمكن أن تكون البديل عن الدولة. هذا ليس إنسانيًا، بل هو نظام يُعيد إنتاج الفقر كسياسة.
Nefertiti Yusah
أمي كانت تقول لي: "إذا مات التعليم، مات المستقبل". وأنا شايفة الأطفال في سري لانكا يجلسوا في مدارس بلا ورق، بلا كهرباء، بلا ماء، وبلا أمل. ما يخلي قلبي ينفطر إنهم يدفعوا راتب كامل لتعليم طفلين، وهم اللي ما عندهم حتى يأكلوا. هذا مش كارثة، هذا جريمة. كل اللي يتكلم عن "إصلاحات اقتصادية" وينسى الأطفال، يكذب على نفسه. ما في حد يقدر يفهم تعب أم تدفع 5000 روبية علشان تكتب ورقة امتحان، ومش قادرة تشتري خبز. الله يخليهم.
Ali al Hamidi
الحقيقة أن ما يحدث في سري لانكا هو ترجمة عملية لنظرية "الدولة الضعيفة" التي تُركت لتعتمد على المانحين، بينما تُهمل مسؤولياتها الأساسية. التخفيضات الضريبية عام 2019 لم تكن "تحفيزًا اقتصاديًا"، بل كانت تفكيكًا متعمدًا للدولة الاجتماعية. انخفاض الإنفاق على التعليم إلى أقل من 1.8% من الناتج المحلي - وهو رقم أدنى من بعض دول الساحل الإفريقي - يُظهر أن السياسة كانت مُخططة لخلق فجوة اجتماعية لا يمكن إصلاحها بسهولة. حتى الآن، لم تُطرح أي خطة وطنية لإعادة بناء النظام التعليمي أو الصحي، فقط تدخلات طارئة تُشبه تضميد جرح بـ"الغراء". اليونيسف تُحاول، لكنها لا يمكنها أن تكون جهازًا حكوميًا. هذا ليس نقصًا في التمويل، هذا نقص في الإرادة السياسية. عندما تُصبح المدارس مُنتجة للطلاب فقط إذا دفعوا، فأنت لا تُنهي أزمة، بل تُخلق نظامًا جديدًا من التهميش الممنهج.